يشهد الاتحاد الأوروبي في الآونة الأخيرة نقلة نوعية في سياسته الطاقوية والمناخية، من خلال توجّه حازم نحو فرض إجراءات صارمة على الدول والشركات التي لا تلتزم بمعاييره البيئية الجديدة. وقد برزت مؤخرًا مجموعة من المقترحات التشريعية والمبادرات، على غرار آلية تعديل الكربون على الحدود ورفع أهداف خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، الأمر الذي ينذر بعقوبات مالية صارمة ضد غير الملتزمين. ورغم أن الأنظار تنصبّ بكثافة على محاولات أوروبا تقليص اعتمادها على الغاز الروسي، فإن هذه التشريعات تنطوي على انعكاسات مهمة على مصدّرين آخرين، وعلى رأسهم الجزائر.
أوّلًا: لمحة عن العقوبات الأوروبية الجديدة
1. آلية تعديل الكربون على الحدود
تهدف هذه الآلية إلى فرض سعر على الكربون الموجود في السلع المستوردة إلى الاتحاد الأوروبي. ففي حال استيراد منتجات كالأسمنت والفولاذ والألومنيوم والأسمدة والكهرباء والهيدروجين – مع احتمال توسيع القائمة مستقبلًا لتشمل الغاز الطبيعي – يتوجّب على الشركات الأجنبية شراء ما يُعرف بشهادات الكربون، تكافئ الكلفة الكربونية لو أُنتجَت هذه السلع وفق نظام تداول الانبعاثات الأوروبي.
2. تشديد اللوائح البيئية
في إطار حزمة الإجراءات الرامية إلى خفض الانبعاثات بنسبة 55 في المئة بحلول عام 2030، تفرض تشريعات الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء تقليص انبعاثاتها بشكل حاد، مع تحديد عقوبات على الأطراف – بما يشمل المصدّرين من خارج الاتحاد – في حال عدم الالتزام بالمعايير أو تقديم بيانات انبعاثات مضلّلة.
3. غرامات مالية وتعديلات تجارية
إلى جانب تكلفة شهادات الكربون، قد تُفرض غرامات باهظة في حال عدم الامتثال أو الإخلال بتقديم البيانات المتعلقة بانبعاثات الكربون. كما ستتمتع الدول الأعضاء بصلاحية فرض متطلّبات أكثر صرامة على الواردات في حال أثبتت عدم توافق المورِّدين الخارجيين مع الأهداف المناخية. وتشير تقارير صادرة عن منصّات أوروبية إلى أن حجم الغرامات قد يصل إلى عشرات أو حتى مئات ملايين اليوروهات عندما يتعلق الأمر بسلع عالية الكثافة الكربونية.
ثانيًا: موقع الجزائر في سوق الطاقة الأوروبية
1. دور محوري في إمدادات الغاز
تُعَدّ الجزائر أحد أهم مصدّري الغاز الطبيعي إلى أوروبا، خصوصًا نحو دول جنوب القارة مثل إيطاليا وإسبانيا، فضلًا عن فرنسا. وفي ظلّ محاولة الاتحاد الأوروبي تقليل اعتماده على الواردات الروسية، تنامت أهمية الغاز الجزائري كخيار بديل موثوق.
2. زيادة الصادرات بعد أزمة أوكرانيا
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، أخذت دول الاتحاد الأوروبي في البحث عن مصادر بديلة للغاز الروسي، ما دفعها إلى تعزيز العقود والمذكرات مع مؤسسة سوناطراك الجزائرية. وقد شهدت الفترة الأخيرة توقيع اتفاقيات تهدف إلى زيادة الإمدادات على المدى القصير والمتوسط.
3. صعوبات تتعلق بالتزام الجزائر بالمعايير الخضراء
على الرغم من مكانة الجزائر المتنامية في السوق الأوروبية، يشير خبراء نقلًا عن تقارير دولية إلى حاجة قطاع الغاز الجزائري إلى تحديثات تقنية لتقليص انبعاثات الميثان وتطوير قدرات احتجاز الكربون وتخزينه، حتى يتماشى مع الشروط الأوروبية البيئية الجديدة.
ثالثًا: التأثيرات المحتملة على صادرات الجزائر من الغاز
1. مخاطر تكاليف الكربون
إذا وسّع الاتحاد الأوروبي تطبيق آلية تعديل الكربون على الحدود لتشمل الغاز الطبيعي، فقد تواجه الصادرات الجزائرية تكاليف إضافية نتيجة شراء شهادات الكربون أو التعرّض لعقوبات في حال عدم الالتزام بالمعايير البيئية. وترى تحليلات من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة أن هذه الأعباء المالية قد تصبح كبيرة ما لم تتخذ الجزائر خطوات عاجلة لقياس الانبعاثات وخفضها.
2. الحاجة إلى استثمارات في التقنيات النظيفة
لضمان استمرار الوصول التنافسي للسوق الأوروبية، قد تضطر الجزائر إلى استثمار مبالغ كبيرة في التقنيات التي تقلّل من كثافة الكربون، مثل تحديث خطوط الأنابيب للحدّ من تسربات الميثان، وتطوير مشروعات احتجاز الكربون وتخزينه. كما يُطرح مشروع تحويل الجزائر إلى منتِج محتمل للهيدروجين الأخضر، لكن تحقّق هذا الأمر يتطلّب تمويلًا كبيرًا وجهودًا بحثية وتقنية.
3. التأثير على القدرة التنافسية
أي تكاليف أو غرامات إضافية يفرضها الاتحاد الأوروبي قد تنعكس على أسعار الغاز الجزائري، ما يضعه في منافسة أصعب أمام مصادر أخرى، سواء من الدول التي تبذل جهودًا أكبر في خفض الانبعاثات (مثل النرويج) أو من الولايات المتحدة التي بدأت توريد الغاز المسال بكميات متزايدة.
4. التوجّه نحو بدائل طويلة المدى
في ظلّ خطط أوروبا لبلوغ الحياد المناخي بحلول عام 2050، تتجه دول الاتحاد إلى تسريع الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة أو البدائل منخفضة الكربون، ما يحدّ تدريجيًّا من دور الوقود الأحفوري. وعليه، تواجه الجزائر تحدّيًا استراتيجيًّا يدفعها إلى إعادة صياغة دورها المستقبلي في تزويد أوروبا بالطاقة، سعيًا للحفاظ على حصتها السوقية.
رابعًا: الفرص المتاحة أمام الجزائر
1. تعزيز المكانة الاستراتيجية
على الرغم من التحديات البيئية، لا تزال لدى الجزائر ورقة مهمّة تتمثّل في حاجة أوروبا الملحّة لتنويع مصادر الغاز بعيدًا عن روسيا. وهذا يمنح الجزائر فرصة للتفاوض على شراكات قد تتضمن تمويلات أوروبية مشتركة لتحديث القطاع الطاقوي.
2. التعاون التكنولوجي والمالي
تلمّح عدّة دول أوروبية إلى استعدادها للدخول في اتفاقيات ثنائية مع الجزائر بغرض تحديث البنية التحتية الطاقوية، لا سيما في ما يخصّ مشروعات رصد تسربات الميثان، وتطوير أنظمة احتجاز الكربون واستغلاله وتخزينه. ومن شأن تلك المبادرات أن تساعد الجزائر في تخفيف أي غرامات محتملة أو خفض كلفة شهادات الكربون.
3. تعزيز العلاقات الثنائية
تحرص دول مثل إيطاليا على تعزيز التعاون مع الجزائر في مجال الطاقة. وتوضح التقارير الأخيرة أن شركات مثل إيني وسوناطراك قد بدأت في وضع خطط مشتركة للارتقاء بجودة الإنتاج وخفض الانبعاثات، وهو ما سيساعد الجزائر على الامتثال للمعايير الأوروبية الصارمة.
خامسًا: الآفاق والخلاصة
إن السياسة البيئية الصارمة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي، والمصحوبة بعقوبات عالية الكلفة على المخالفين، ترسم معالم جديدة لسوق الطاقة عالميًّا. وفيما تحظى الجزائر بفرصة ذهبية للعب دور أساسي في تزويد أوروبا بالغاز – خصوصًا بعد تراجع الإمدادات الروسية – فإن عدم الالتزام الصارم بالمعايير البيئية قد يفرض أعباء مالية كبيرة ويضعف القدرة التنافسية للصادرات الجزائرية.
من جهة أخرى، إذا نجحت الجزائر في تحديث بنيتها التحتية الطاقوية والحدّ من انبعاثاتها، فقد تحتفظ بمكانة رائدة في سوق الغاز الأوروبية، لا بل وتعزّزها في المرحلة المقبلة. فالتوفيق بين أمن الطاقة الأوروبي والأهداف المناخية الطموحة يترك مجالًا واسعًا للتعاون المثمر، شريطة العمل على تحقيق التوازن بين احتياجات السوق ومسؤوليات البيئة. وستكون السنوات المقبلة حاسمة في رسم معالم هذه العلاقة الطويلة الأمد بين الجزائر وأوروبا في مجال الطاقة.
شيخي زهير
مهندس مختص في الاقتصاد و النفط