يشهد قطاع السيارات العالمي تحوّلات جذرية في ظل تغيّر تفضيلات المستهلكين، وتشديد اللوائح البيئية، واحتدام المنافسة. وفي خضم هذه الاضطرابات، تجد شركات عريقة نفسها أمام تحدّيات مالية كبيرة. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أنّ شركة نيسان، إحدى العلامات اليابانية البارزة في عالم السيارات، تواجه وضعاً ماليّاً حرجاً، مع تزايد الحديث حول احتمالات إفلاسها واستحواذ شركة هوندا عليها. في هذا السياق، تظهر للجزائر فرصة نادرة ذات قيمة استثنائية: إمكانية شراء مصنع تابع لنيسان يعمل بكامل معدّاته وتقنياته، بسعر منخفض، نظراً للظروف التي تمرّ بها نيسان.
أزمة نيسان: نافذة أمل للجزائر
أفادت تقارير من وسائل إعلام اقتصادية ودولية عدّة بأنّ أوضاع نيسان المالية تزداد سوءاً، إذ تراجعت المبيعات واشتدت ضغوط خفض التكاليف، ما دفع الشركة لاتخاذ إجراءات قاسية كتسريح العمال وإغلاق بعض مصانعها. وتوقّعت تحليلات متخصّصة أنّ نيسان قد لا تتمكّن من الاستمرار إلى ما بعد السنوات القليلة المقبلة، في ظل تقلّص حصّتها السوقية وتراجع ثقة المستهلكين.
هذه الأزمة تفتح الباب أمام احتمالات بيع أصول رئيسية، بما في ذلك مصانع كاملة التجهيز. ومع ورود أنباء عن احتمالية استحواذ هوندا على نيسان، فإنّ من الوارد أن تُطرح بعض مصانع نيسان للبيع. هنا تبرز الجزائر كمشترٍ محتمل، حيث يمكنها اقتناص منشأة متطوّرة جاهزة للعمل بسعر قد يكون زهيداً، إذا تمكّنت من التفاوض بحكمة واقتدار.
لماذا يجب على الجزائر التحرّك الآن؟
يواجه قطاع السيارات الجزائري تحدّيات جمّة في سبيل بناء قاعدة تصنيعية متكاملة. فرغم مبادرات جذب الاستثمارات الأجنبية، ما يزال الاعتماد على الواردات قائماً، والمعرفة الفنية محدودة، وسلسلة التوريد المحلية غير متكاملة. ولكنّ الاستحواذ على مصنع كامل جاهز للتشغيل من نيسان سيختصر مسافات طويلة من التطوير التدريجي. فبدلاً من انتظار سنوات لتأسيس بنية تحتية تصنيعية، يمكن للجزائر تفكيك ونقل معدات مصنع نيسان ثم إعادة تركيبها وبدء الإنتاج خلال أشهر قليلة.
إنّ هذه الخطوة ستمنح الجزائر قدرة فورية على إنتاج سيارات مهيّأة للسوق المحلية والإقليمية. ومن ثم، يمكن تحقيق نقلة نوعية سريعة، إذ تنتقل الجزائر من الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد إلى مرحلة الإنتاج المحلي المباشر، ما يقلّص فجوة الزمن والموارد اللازمة لبناء صناعة سيارات متكاملة.
تعزيز المنظومة الصناعية في الجزائر
شهدت الجزائر خلال السنوات الماضية حضوراً لبعض العلامات الكبرى في مجال تجميع السيارات، مثل رينو في وهران، إضافة إلى استثمارات أخرى من علامات معروفة كفولكسفاغن وهيونداي، فضلاً عن اهتمام شركات صينية بالسوق الجزائرية. ورغم ذلك، فإنّ هذه التجارب ما تزال محدودة، حيث يقتصر معظمها على عمليات التجميع لا التصنيع الشامل، مع اعتماد كبير على استيراد المكونات من الخارج.
من خلال الاستحواذ على مصنع نيسان، ستحصل الجزائر على قفزة نوعية. ففي السنوات العشر الأولى، يمكن الاعتماد على توريد قطع الغيار والمكوّنات من اليابان وفق اتفاقيات مسبقة، بما يضمن تدفّقاً مستقراً للإمدادات. وخلال هذه الفترة، ستتمكّن الجزائر من تطوير قاعدة صناعية محلية لصناعة المكوّنات، مستفيدة من الخبرة المكتسبة والتكنولوجيا المنقولة. مع الوقت، ستنهض منظومة إمداد متكاملة داخل البلاد، وستتطور عشرات الشركات المحلية التي تنتج القطع والمكوّنات، ما يقلّل تدريجياً الحاجة إلى الاستيراد.
استراتيجية تفاوضية محكمة لضمان أفضل النتائج
للاستفادة المثلى من هذه الفرصة، على المسؤولين الجزائريين وشركائهم في القطاع الخاص انتهاج نهج تفاوضي يستند إلى الخبرة والرؤية بعيدة المدى. فمع ضعف موقف نيسان، يستطيع المفاوض الجزائري تأمين شروط مغرية للحصول على المصنع ومعدّاته وباقة من الدعم الفني بأسعار تنافسية. ويجب التأكد من مواءمة تكنولوجيا المصنع مع توجّهات السوق المستقبلية، بما فيها التوجه نحو السيارات الكهربائية والتقنيات الذكية.
ليس الهدف مجرد اقتناء أصول في طور التراجع، بل ضمان استدامة هذا الاستثمار. ويمكن تحقيق ذلك عبر دمج المصنع في الاستراتيجية الصناعية الوطنية، وإطلاق برامج تدريبية لتأهيل المهندسين والفنيين الجزائريين، وعقد شراكات مع المورّدين اليابانيين لتأمين القطع لفترة انتقالية تمتد لعشر سنوات، ريثما تنضج قاعدة صناعات المكوّنات في الجزائر.
فوائد طويلة المدى
ستكون المكاسب الفورية متمثّلة في انطلاق إنتاج السيارات محلياً، وتلبية احتياجات السوق الداخلية بأسعار أكثر تنافسية، وتقليص الاعتماد على الواردات. وعلى المدى المتوسط والطويل، سيتحوّل القطاع إلى قاطرة تنموية: فالمصنع لن يخلق فرص عمل مباشرة فحسب، بل سيحفّز سلسلة واسعة من الصناعات المحلية الداعمة، من مزوّدي قطع الغيار والمواد الأولية إلى شركات اللوجستيات والمبرمجين والفنيين. ومع مرور عقد من الزمن، ستتبلور سلسلة إمداد متينة، قادرة على خدمة خط إنتاج وطني شامل.
من هنا، يمكن للجزائر أن تتخطى مرحلة "اللحاق بالركب" لتصبح منافساً إقليمياً في مجال السيارات، وربما مُصدّراً نشطاً إلى دول الجوار. هذا الإنجاز سيتكامل مع المساعي الأوسع لتنويع الاقتصاد الوطني، وتقليل الارتهان لقطاع المحروقات، وتعزيز القدرات التصنيعية للبلاد.
ختاماً: فرصة تاريخية تستحق الاقتناص
إن ما تواجهه نيسان من صعوبات قد يشكّل فرصة تاريخية للجزائر. فبصفقة ذكية ورؤية استراتيجية، تستطيع البلاد اقتناص مصنع متكامل بخبرة يابانية وتقنيات متقدمة، ووضعه حجر أساس لنقلة نوعية في قطاع السيارات الوطني. بهذه الخطوة، لن تُرسّخ الجزائر موطئ قدم قوي في هذا القطاع فحسب، بل ستبني أساساً متيناً لصناعة مستقبلية قادرة على المنافسة، والابتكار، والتصدير، والدفع بعجلة التنمية الاقتصادية قُدماً.
بزن باسط