حفلت الجزائر منذ قرون بظهور أقطاب بارزة للتصوف السنّي الإصلاحي الجهادي الذي أبلى بلاء حسنًا في تزكية النفوس وتهذيب السلوك ونشر العلم الشرعي الصحيح، خلافا لما يشاع عن بدعيّة الطرق الصوفية وانغماسها في الشركيّات والضلال، فهم ليسوا سواء على مرّ التاريخ.
ومن مرجعيات التصوف السنّي في الجزائر الشيخ الرباني، سيدي عبد الرحمان الثعالبي، وهو أحد أعلام الأشاعرة المالكية في القرن التاسع الهجري، وقد صار رمزا لمدينة الجزائر التي أضحت تعرف بمدينة سيدي عبد الرحمان، حيث يضمّ مسجده بالعاصمة ضريحه الطاهر.
ويعدّ الرجل الجليل كذلك مفسرًا وفقيها مالكيا، ولد بالجزائر موطن آبائه وأجداده الثعالبة.
الميلاد والنشأة والتكوين
أما عن نسبه الكامل فهو أبو زيد عبد الرحمان بن محمد بن مخلوف بن طلحة بن عامر بن نوفل بن عامر بن موصور بن محمد بن سباع بن مكي بن ثعلبة بن موسى بن سعيد بن مفضل بن عبد البر بن فيسي بن هلال بن عامر بن حسان بن محمد بن جعفر بن أبي طالب ولد عبد الرحمان الثعالبي سنة 786هـ /1384م، بوادي يسر، الواقعة حاليا بولاية بومرداس، فهي موطن آبائه وأجداده الثعالبة، ويقال إنّ أبناء ثعلب بن علي من عرب المعقل الجعافرة.
نشأ سيدي عبد الرحمان الثعالبي في بيئة علم ودين وصلاح، استهل تعلمه على يدي علماء منطقته، ثم انتقل وتكون في الجزائر ثم قصد المغرب الأٌقصى بصحبة والده محمد بن مخلوف، حيث تعلم أصول الدين والفقه فأخذ عن العجيسي التلمساني المعروف بالحفيد.
وزار في رحلته التكوينية مدينة بجاية، فمكث بها سنة، ثم عاد إلى مسقط رأسه بعد وفاة والده، ثم رجع لمدينة بجاية مجددا فنزل بها سنة 802هـ/1399م، ليمكث حوالي سبع سنوات، تعلم خلالها على أبي الحسن علي بن عثمان المنجلاتي، وأبي الربيع سلمان بن الحسن، وأبي العباس أحمد النقاوسي، وأبي القاسم المشدالي، وأبي زيد الوغليسي، وغيرهم.
ثم انتقل إلى تونس سنة 809هـ/1406م فتعلم على الأبي، والبرزلي تلميذ ابن عرفة، قبل أن يرتحل إلى مصر سنة 819هـ /1414م، فلقي بها البلالي، وأبا عبد الله البساطي، وولي الدين العراقي وغيرهم، ومنها إلى تركيا، ومنها قصد الحجاز فأدى فريضة الحج، واختلف إلى مجالس العلم هناك، ثم قفل راجعا إلى مصر حيث واصل دراسته فيها، ومنها إلى تونس، فوافى بها ابن مرزوق الحفيد التلمساني، فلازمه وأخذ عنه الكثير.
وبعد هذه الرحلة الطويلة في طلب العلم والمعرفة عاد إلى الجزائر، فاهتم بالتأليف، وصار يلقي دروسه بأكبر مساجد الجزائر آنذاك، إذ تخرج على يديه كثير من العلماء، من بينهم: محمد بن يوسف السنوسي و أحمد زروق و محمد المغيلي التلمساني وأحمد بن عبد الله الزواوي و محمد بن مرزوق الكفيف، وغيرهم.
تولى القضاء زمنا قصيرا، ثم تركه لينقطع إلى الزهد والعبادة، كما قام بالخطابة على منبر الجامع الأعظم بالجزائر العاصمة، ويروى أن من بقايا آثاره إلى اليوم بهذا المسجد مقبض عصى خطيب صلاة الجمعة.
آثاره العلمية
ترك سيدي الثعالبي تراثا علميا زاخرا بالمعرفة الروحيّة والعقدية والفقهية واللغوية وسواها، مما صنفه في مختلف علوم الشريعة بكل فنونها الواسعة.
كان سيدي الثعالبي معروفا بكونه عالم زمانه في القطر الجزائري في علم التفسير، والذي تميز فيه بإتباع "منهج مميز" جمع بين "النقل والعقل"، وفق الدارسين لتراثه.
وعرف تفسيره النفيس بعنوان "الجواهر الحسان في تفسير القرآن"، في أربعة أجزاء، وقد انتقاه - كما يقول- من كتب التفسير السابقة وأضاف إليه ما تيسر له، فجاء مملوءاً بنفائس الحكم وجواهر السنن الصحيحة، طبع أول مرة بالجزائر 1909، ثم طبع طبعة ثانية في السنوات الأخيرة بتحقيق الدكتور عمار طالبي.
لقد تأثر الثعالبي في تفسيره المذكور، والذي يعتبر من أهم المراجع عند أهل السنة والجماعة، بمصادر مشرقية، كما تأثر بمصادر مغربية وأندلسية، فجاء مزيجا بين الفكر المشرقي والفكر المغربي، حيث ضمنه المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزاده فوائد من غيره من كتب الأئمة، حسبما رآه أو رواه عن الأثبات، وذلك قريب من مائة تأليف، وما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين، ومعدود في المحققين.
وفي مجال العقيدة والفقه والتاريخ والتزكية، نذكر له "كتاب حقائق التوحيد"، وهو عبارة عن رسالة صغيرة في علم التوحيد، أو "علم الكلام وأصول الدين"، و "روضة الأنوار ونزهة الأخيار في الفقه"، و "جامع الأمهات للمسائل المهمات"، وهو مخطوط في الفقه بالمكتبة الوطنية بالجزائر، و أيضا "جامع الأمهات في أحكام العبادات"، و"الأربعين حديثا في الوعظ"، و "جامع الهمم في أخبار الأمم"، و "رياض الصالحين وتحفة المتقين في التصوف"، وهو كذلك مخطوط بالمكتبة الوطنية الجزائر تحت رقم 833.
زيادة على هذا، تسجل له مخطوطات في التوحيد واللغة والفقه والحديث والتراجم في تنبكتو بالنيجر، وكذلك "الدر الفائق"، و"الأنوار المضيئة بين الحقيقة والشريعة" ويعنى بالتربية الروحية، و"حقيقة الذكر"، و"الذهب الإبريز في غرائب القرآن والعزيز".
وتذكر المصادر التاريخية أنّ المخطوطات التراثية للشيخ الثعالبي بلغت ما يفوق 200 مخطوطة.
وبذلك صار سيدي الثعالبي من أهمّ أعلام القرن التاسع الهجري، حتّى أن الإنتاج الفكري له انتشر في مختلف مكتبات العالم العربي والغربي.
وعن العناية بالتأليف والاشتغال بالتصنيف، يقول سيدي الثعالبي في كتابه الجامع الذي ذيل به شرحه لمختصر ابن الحاجب الفرعي ما نصه: "وينبغي لمن ألف أن يعرف بزمانه وبمن لقيه من أشياخه، فيكون من يقف على تأليفه على بصيرة من أمره، ويسلم من الجهل به، وقد قل الاعتناء بهذا المعنى في هذا الزمان، وكم من فاضل انتشرت عنه فضائل جُهل حاله بعد موته لعدم الاعتناء بهذا الشأن".
وقال عنه الشيخ أبو زرعة العراقي: "الشيخ الصالح الأفضل الكامل المحرر المحصل الرحال أبو زيد عبد الرحمان بن محمد بن مخلوف الثعالبي"، كما وصفه العلامة عيسى بن سلامة البسكري: "بالشيخ الصالح الزاهد العالم العارف أبو زيد عبد الرحمان الثعالبي"، وقال عنه تلميذه الشيخ أحمد بن زروق: "كانت الديانة أغلب عليه من علمه".
وفاته
توفي يوم الجمعة 23 رمضان 875هـ منتصف شهر مارس 1471م. ودفن في زاويته بالجزائر العاصمة، حيث ضريحه بها إلى اليوم في مقبرة سيدي عبد الرحمان الثعالبي.
وقد رثاه كثير من العلماء من معاصريه، كان من بينهم تلميذه أحمد بن عبد الله الزواوي، ومن ذلك قوله: "لقد جزعت نفسي بفقد أحبتي وحق لها من مثل ذلك تجزع، ألمّ بنا ما لا نطيق دفاعـــه وليس لأمر قدر الله مرجع".
ق.و