بقلم: مهماه بوزيان
تابعت مقطعا متداولا، مجتزءّ من محاضرة مدتها ساعة، ألقاها المدير العام لشبكة الجزيرة سابقا (2003-2011)، الإعلامي الفلسطيني السيد وضاح خنفر، الذي صنفته مجلة فورين بوليسي، في عام 2011، الأول في قائمة ضمت أبرز 100 شخصية من المفكرين العالميين.
ألقى هذه المحاضرة، منذ أسبوعين، ضمن جلسة من ديوان الشرق، أمام جمع من الشباب العربي والسوري في مدينة غازي عنتاب في جنوب تركيا، تحت عنوان "الشام قلب الشرق الأوسط: الفرار نحو المستقبل"، نقلها ديوان الشرق بتاريخ 24 نوفمبر 2024.
هذا المقطع المتداول مدته (1 دقيقة و30 ثانية)، بدءّ من الدقيقة 50 لهذه المحاضرة، مضمونه التالي :
[ سنشهد في العالم تغييرا في الخرائط، وينبغي لنا أن نفكر خارج الصندوق، الذي أرادوا ان يضعونا فيه، أن نفكر خارج حدود الدولة الوطنية التي أرادوا ان يحشرونا فيها .. أن نفكر في إستعادة تدفق التاريخ، تدفق تاريخنا في الجغرافيا، وليس التاريخ الغربي الذي بَنَى التمزيق والتبعية والتجزئة في أرضنا. هكذا ينبغي أن نفكر، وهذا هو التفكير السليم، السليم براغماتيا، والتفكير السليم أخلاقيا، والتفكير السليم حضاريا. ومن غيره سنقع في فخ التجزئة، التي سوف تعيدُنا إلى الضعف، وتعيدنا إلى الدكتاتورية، وتعيدنا إلى المَهَاجِر، وسوف تعيدنا أيضا إلى الحروب الأهلية. هكذا هيا الدنيا، بكل صراحة و وضوح، لكل من يريد أن يعيش في هذه الارض بأمن وآمان وسلام وإسلام، حتى وإن لم يكن من أهل الدين ومن المتدينين، علمانيا أو يساريا او قوميا، هذا هو واقع هذه الأرض، أنه لابد لها أن تتصل ببعضها البعض، ليس بهدم الدول، إنما ندافع عن فكرة التكامل.]
المضمون جذّاب، و يُناغي الوجدان، ويلامس ابعادا تأنس لها النفوس المؤمنة بالكينونة الحضارية والتاريخية للأمة الإسلامية، بل يستثير فيها حمية الأمجاد.
لكنني اعتقد بأن وضع مثل هذه المحتويات المجتزأة عن سياقاتها المعرفية، في هذا الوقت بالذات، هي عملية مدروسة تستهدف خلخلة الوعي الجمعي وإضعاف الإيمان بالوطن والدولة القائمة، و جعل عقيدة الإنتماء مهزوزة في نفوس الجماهير على إمتداد جغرافيا عالمنا الإسلامي، وجعل الجماهير تندفع لبناء إنتماء خائلي حالم بما هو غير قائم. وهنا مكمن الخطر وهو الدفع بالشعوب في الفراغ ضمن سراديب النظرية السياسية السلطانية وملاحقة الحلم الغائب، والزهد فيما هو قائم، أي التحلل من الولاء للوطن والدولة الوطنية القُطْرية (مفرد كلمة أقطار).
انا أجزم بذلك،
لأنه بالأمس فقط (9 ديسمبر 2024)، كتبت منصة (Atalayar) المخزنية، مقالة تحت عنوان :
"Une désintégration ordonnée au Maghreb et une nouvelle carte politique au Sahel ?"
إن الحديث عن تفكك منظم في منطقة المغرب العربي وظهور خريطة سياسية جديدة في الساحل (سيناريو إعادة التشكيل 2025-2035)، بالإتكاء على فكرة تجاوز "الحدود الموروثة عن الاستعمار" والعمل للقفز عليها، كونها بمنطق المقالة "تم رسمها بشكل تعسفي وفقًا لمصالح القوى الأوروبية، والتي خلقت دولًا مصطنعة تتجاهل الحقائق العرقية والثقافية والاقتصادية التي تعود إلى قرون. وقد أصبح هذا التقسيم المصطنع موضع تساؤل اليوم بسبب الحاجة إلى التنمية المتكاملة للمنطقة وضرورة تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل."
ثم، في هذه المقالة، تمّ إستدعاء الرغبة في "التكامل الطبيعي"، مثلما تحدث السيد وضاح خنفر .. !!!
هذا التمحور حول "فكرة تُنظّر و تدفع لتجاوز حدود الدولة الوطنية القائمة"، والتزامن في طرحها والتركيز عليها، يجعلني أشعر بأن هذا الفكر الذي يستهوي الأنفس، وتكثيف طرحه في هذا الوقت بالذات، هو يصدر ويتسلل من قبو واحد، فهو يستهوي ليستقوي (للإستقواء) على الدولة المنيعة عنهم.
ومقالة منصة ((Atalayar) المخزنية، يوم أمس، تحدثت عن العقبات المصطنعة، وألصقتها كلها بالجزائر، بل كتبت بالحرف الواحد بان الجزائر تشكل حاليا العائق الرئيسي أمام أي تكامل إقليمي، وهي التي اعاقت مشروع السكة الحديدية الرمزي بين القاهرة وطنجة، الذي يشكل أهمية حيوية لتنمية شمال أفريقيا.
وقبل يوم أمس (8 ديسمبر 2024)، كتب الموقع الفرنسي "Sahel Intelligence"، مقالة بعنوان:
L’Algérie : Vers un sort similaire à celui de la Syrie ? Dynamiques autoritaires et risques
"الجزائر: نحو مصير مماثل لمصير سوريا؟ الديناميكيات والمخاطر الاستبدادية" بقلم فريديريك باولتون، الذي يقدمه الموقع كمحرر خبير دولي في قضايا الطاقة والمالية، لكن المعروف عنه هو تحامله المستمر على الجزائر، بما كرس صورته العدائية الدائمة لبلاد الشهداء، ولتبسيط الأمر أكثر، فللعلم فإن "Le Sahel Intelligence" مملوك من قبل شركة GIC" Conseil" التي مقرها باريس، ومسؤول النشر فيه ورئيس التحرير هو صموئيل بن شمعون المحلل السابق في تساهال (جيش الإب .... ادة الجماعية التابع للكيان)، حيث عمل لمدة 20 عامًا قبل أن يغادره عام 1999 برتبة مقدم.
الخلاصة:
أولًا،
الأفكار ينبغي فهمها ضمن سياقاتها، والتعاطي معها وفقا لمرجعيات معلومة، وأطر معرفية مؤسسة، والحذر من الإنجرار خلف بلاغة المبنى، والإنجراف مع وهج المعاني الخائلية التي تأخذ بالألباب وتهيج لها العواطف، فأحيانا قد تأخذنا الدهشة أمام بلاغة الخطاب، فنُسَلِّمُ ذواتنا للخطاب والخاطب .. الشيء الذي يورثنا خطبًا بالغًا في مآلات الأمور !!
ثانيًّا،
إن من يقومون، في هذه المرحلة بالذات، بالتركيز على استجلاب نماذج تاريخية في الحكم والسياسة كملاذ لنا وللأمة، عبر سياقات غير سياقاتها الطبيعية، وفي أوضاع أزمة عميقة من التشرذم والتطبيع والهرولة له والولاء للأجنبي؛ كما أثر عن العلامة عبد الحميد ابن باديس -طيّب الله ثراه- هم ممن "يفتنون الناس ويمتهنون إلهاءهم بما ليس في الإمكان تحقيقه".
ثالثًا،
الولاء للوطن بحدود جغرافيته القائمة، هو عين الولاء، وهو الخيار والملاذ، وهو من الإيمان، وقالت العرب قديما: ( إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه)، والجزائر. هي الوطن.