شهد الاقتصاد الجزائري خلال الأعوام الأخيرة تحسّناً ملحوظاً، مما أرسى أرضية أكثر صلابة للشروع في إصلاحات أوسع. ففي النصف الأول من عام 2024، استمر نمو الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة مشجّعة، مدعوماً بقطاعات غير استخراجيّة بدأت تتقاسم الأضواء مع قطاع المحروقات الذي كان مهيمنًا في السابق. ووفقاً لتحديث الوضع الاقتصادي للجزائر (خريف 2024) الصادر عن منصة "المعرفة من أجل السياسات" التابعة للمفوضية الأوروبية، وكذلك تقييمات البنك الدولي، يعكس هذا الأداء تنوّعاً اقتصاديّاً لا يزال في مراحله الأولى، لكنه بات أكثر حضوراً وتأثيراً.
على صعيد المؤشرات الاقتصادية الكليّة، سجّلت الجزائر تقدّماً لافتاً. ففي حين واجهت البلاد معدّلات تضخّم مرتفعة عام 2022، يشير صندوق النقد الدولي إلى تراجع هذه المعدّلات نحو 7-8% مع حلول منتصف عام 2024، ما يعكس سياسات نقديّة أكثر انضباطاً. وفي الوقت ذاته، استقرت احتياطيات النقد الأجنبي ــ التي كانت قد تأثّرت سابقاً بانخفاض عائدات المحروقات ــ لتوفّر حاجز أمان مهم في مواجهة الصدمات الخارجيّة. والأبرز من ذلك، لا تزال الديون الخارجية للجزائر عند مستويات منخفضة جداً لا تتعدّى بضع نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي يضفي على اقتصادها مناعة نسبية مقارنة بالعديد من دول المنطقة.
هذه المنجزات، على الرغم من أهميتها، لا تعني اكتمال مسار الإصلاح. فالجزائر ما تزال بحاجة إلى تعزيز التنويع الاقتصادي، ودعم حيويّة القطاع الخاص، وتحسين بيئة الاستثمارات الأجنبية. إلا أن ثبات الأرضية الاقتصادية الحالية يتيح فرصة سانحة للشروع في مقاربة مدروسة نحو انفتاح تدريجي للعملة الوطنية، الدينار الجزائري، على الأسواق العالمية.
تمهيد الطريق نحو دينار قابل للتحويل
يتطلّب التفكير في جعل الدينار الجزائري قابلاً للتداول دولياً نهجاً تدريجياً ومدروساً على مدى عدة سنوات، وفق مراحل محدّدة:
1. تعزيز المؤسسات والأسواق الماليّة (1-2 عام)
o دعم استقلالية البنك المركزي وتحسين شفافية السياسة النقدية.
o تحديث الإشراف المالي وتعميق أسواق رأس المال المحليّة، وتشجيع إصدار السندات الحكومية وسندات الشركات.
2. تحرير جزئي وزيادة مرونة سعر الصرف (3-5 أعوام)
o تخفيف القيود على تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل مدروس.
o اعتماد سعر صرف أكثر مرونة ضمن نطاق محدّد، واستخدام أدوات احترازية لمنع الاضطرابات الماليّة.
3. توسيع الانفتاح وتحويلات الحساب الجاري (5-7 أعوام)
o تبسيط معاملات الحساب الجاري لتسهيل التجارة وتقليص الإجراءات البيروقراطية.
o تقليص تدخّل البنك المركزي في سوق الصرف، وترك آليات العرض والطلب لتؤدّي دوراً أكبر في تحديد قيمة الدينار.
4. التحوّل نحو القابلية الكاملة للتحويل والاندماج في الأسواق (7-10 أعوام)
o رفع معظم القيود على رؤوس الأموال، بالاعتماد على بنية ماليّة قويّة وأطر احترازيّة متينة.
o إدماج الدينار كاملاً في الأسواق الماليّة العالميّة، ما يسهّل التدفقات الرأسماليّة ويعزّز فرص الاستثمار والتمويل.
المزايا والعيوب المحتملة لزيادة قابلية الدينار للتحويل
المزايا:
• ثقة أكبر للمستثمرين وتدفّقات رأسماليّة متنامية:
قد يجذب الانفتاح النقدي استثمارات أجنبيّة مباشرة واستثمارات محفظيّة أكبر، ما يخفّض تكاليف التمويل ويدعم نقل التكنولوجيا والخبرات.
• وصول أفضل للأسواق الماليّة العالميّة:
بفضل نظام أكثر انفتاحاً، يصبح بإمكان الشركات الجزائريّة الحصول على مصادر تمويل متنوّعة من الخارج، ما يدعم توسيع النشاطات والابتكار والمنافسة.
• تنشيط التجارة وتحسين التنافسيّة:
سيعكس سعر الصرف المرن الأسس الاقتصادية الحقيقية، مما يعزّز الصادرات ويحدّ من الاعتماد المفرط على المحروقات، ويفتح الباب أمام قاعدة تصديرية أوسع.
• تحديث القطاع المالي:
تدفع الإصلاحات اللازمة لتحرير العملة إلى تطوير البنية التحتيّة الماليّة، وتعزيز إدارة المخاطر، وتحسين الإطار التنظيمي، الأمر الذي يقود نحو قطاع مالي أقوى وأكثر حداثة.
العيوب:
• احتمال التقلّبات والهجمات المضاربيّة:
في حال عدم الإعداد الجيّد، قد يواجه الاقتصاد تقلبات مفاجئة في التدفقات الرأسماليّة، ما يزيد من مخاطر عدم استقرار سعر الصرف والأسواق الماليّة.
• التعرّض لصدمات خارجيّة:
الانخراط الأكبر في الأسواق العالميّة يجعل الاقتصاد أكثر عرضة لتقلّبات الأوضاع الدوليّة، ما يتطلّب رصداً دقيقاً للمخاطر وتطبيق أدوات احترازيّة فعّالة.
• ضغوط تضخميّة مؤقتة:
قد ترتفع أسعار الواردات عند تعديل سعر الصرف بما يتوافق مع قوى السوق، ما ينعكس على معدّلات التضخّم، إذا لم تترافق العملية مع إدارة نقديّة رشيدة.
• تراجع دور سياسة الصرف المباشرة:
سيحدّ الانفتاح الكامل من قدرة البنك المركزي على استخدام سعر الصرف كأداة لحماية الاقتصاد من بعض الصدمات، مما يستدعي سياسات أكثر تعقيداً وانضباطاً ماليّاً كبيراً.
خاتمة
في الختام، ورغم أن النهج التدريجي المقترح قد يمتد لعقد من الزمن، إلا أنّ التحوّل الرقمي واعتماد أحدث التقنيات في القطاع المالي يمكن أن يُحدث نقلة نوعيّة في الإطار الزمني المنشود. فإرساء بنية تحتيّة مالية رقميّة، وترسيخ منظومات دفع إلكترونية آمنة وفعّالة، واعتماد أنظمة رقابة وتحليل بيانات متقدّمة، من شأنه تسريع مسار الإصلاحات بدرجة كبيرة. إنّ الانتقال من المعاملات الورقيّة والبنى التقليديّة إلى الحلول الذكيّة والتقنيات المالية الحديثة، سيُسهّل تدفّق المعلومات، ويُحسّن الشفافية، ويُسرّع عملية اتخاذ القرار وضبط المخاطر، فضلاً عن زيادة ثقة المستثمرين المحليّين والدوليّين.
بهذا، يمكن للحكومة الحالية أن تختصر الفترة المتوقعة، فتقلّص الإطار الزمني اللازم من عشر سنوات إلى أقل من خمس سنوات فقط، إذا ما مضت قدماً في إنجاز التحوّل الرقمي الشامل للقطاع المالي وتسخير آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا. وبذلك، لن تقتصر مكاسب الانفتاح النقدي على دعم النمو الاقتصادي والتكامل العالمي، بل ستمتدّ إلى بناء منظومة ماليّة مبتكرة وقادرة على مواكبة العصر، والانطلاق بالاقتصاد الجزائري نحو أفق أوسع من المرونة والازدهار.
زهير شيخي
مهندس مختص في الاقتصاد و النفط