د. محمد عبد الستار
كيف سيكون عليه العالم اليوم لو لم يحارب السوفيات النازية؟، وكيف كانت إفريقيا لتكون اليوم لو لم تحارب الجزائر فرنسا؟ وكيف كانت آسيا لتكون لو لم تحارب الفيتنام فرنسا وأمريكا؟ وكيف سيكون وضع فلسطين والعالم العربي لو تخاذل الفلسطينيون عن المقاومة؟ نترك الجواب لمن يعتقد أن حجم الخسائر في الحرب هو مؤشر النصر، لكن هذا المقال يوضح عكس ذلك.
أوضحت في المقال السابق، الذي حمل عنوان المقاومة وإسرائيل: دلالات الانتصار الاستراتيجي والانهزام التاكتيكي، أنه ووفقا لعدد من السرديات أو المقاربات يمكن القول إن المقاومة الفلسطينية وتحديدا حماس انهزمت في الحرب لكن انهزامها تاكتيكي، وحققت انتصارا استراتيجيا ستتضح معالمه مع مرور الوقت. أما إسرائيل فقد حققت نصرا تاكتيكيا كبيرا، لكنها انهزمت انهزاما استراتيجيا لا مثيل له سوف تظهر معالمه مع الوقت.
ولأن النصر الاستراتيجي هو النصر الذي يحقق الهدف الوطني الأسمى لاسيما هدف الاستقلال والتحرر والذود عن السيادة، لا يمكن قياسه بحجم التضحيات التي تعتبر الثمن المقابل لذلك.
ويزخر تاريخ البشرية بالعديد من التجارب التي تبين حجم التضحيات الباهظة في وجه الاستعمار والعدوان، لكن اليوم يشهد لها الجميع بالنصر، وظلت مفخرة للأجيال اللاحقة، وانعكس عن انهزامها التاكتيكي انتصارات استراتيجية محلية وإقليمية.
تضحيات الجزائريين نموذج إنساني للصمود والنصر
إن المثل الأبرز لحجم التضحيات في سبيل الحرية والاستقلال هو النموذج الجزائري، لقد قدم الجزائريون أثمانا باهظة من أجل ذلك، فعلى مدار قرن و32 سنة من الاحتلال استشهد نحو عشرة ملايين من الجزائريين، وخلال فترة الثورة التحريرية المباركة 1954 قدم الجزائريون 1.5 مليون شهيدا ثمنا للحرية، بل في يوم واحد فقط استشهد أزيد من 45 ألف مواطن يوم 8 ماي 1945، بدون الحديث عن عدد الأيتام والأرامل والمعطوبين، والمنفيين خارج البلاد إلى الشام وكاليدونيا، أما حجم الدمار فقد فاق 10 آلاف قرية دمرت بالنابالم وهو سلاح محرم دوليا. وبعد الاستقلال أصبحت تلك التضحيات مثالا للجهاد والمقاومة والصمود، وأصبحت ثورة نوفمبر المجيدة مفخرة للجزائريين جيلا بعد جيل، ونادرا ما تجد من يقول لك أن المجاهدين أو "جبهة التحرير" غامرت ولم تحسب حسابها جيدا، ولو تريثت ولم تفجر الثورة لحصلنا على استقلالنا بدون تقديم كل التضحيات. مثلما يقال عن طوفان الأقصى اليوم.
والحقيقة أن مثل هذا الكلام قد يصلح للخيال السياسي، ومن حق الجميع أن يضعوا السيناريوهات في الخيال. أما الواقع، فهو العكس تماما، فتلك الدول التي حققت استقلالها بدون تقديم تضحيات كبيرة مثل تونس والمغرب وعدد من الدول الإفريقية، ما كان لها لتفعل لولا تضحيات الشعب الجزائري، ولو لا تلك التضحيات الجزائرية لربما قدمت تلك الدول التضحيات الجليلة من أجل استقلالها. ثم لو لم تكن تلك التضحيات لربما ما زلنا جميعا تحت نير الاستعمار إلى يومنا هذا.
لا يوجد اليوم من يقول بأن الجزائر انهزمت في حربها مع فرنسا رغم التضحيات التي أشرنا إلى بعضها، ولو كان النصر والهزيمة يقاسان بعدد الضحايا، لقال المؤرخون بأن فرنسا هي التي انتصرت، لكنهم لم يفعلوا. وهذا ما ينطبق على المقاومة الفلسطينية على مر التاريخ، وليس على طوفان الأقصى فقط.
حرب الفيتنام: تضحيات هزت القوى العظمى
هناك نموذج آخر عن حجم التضحيات من أجل الكرامة والسيادة والتحرر، إنه النموذج الفيتنامي، وقد أبرزت الفيتنام في عنوان المقال بسبب تشابه نسبي بين الوضع في فلسطين والفيتنام حينذاك والذي أبرزه التدخل الدولي المتعدد.
وقد قدم الفيتناميون أروع النماذج في البطولة ضد القوى الاستعمارية الأجنبية، وعلى الرغم من اختلاف التقديرات حول عدد القتلى الفيتناميين في الحرب ضد فرنسا خلال الحرب الهند الصينية (1946-1954) وحرب فيتنام ضد الولايات المتحدة الأمريكية (1955- 1975) فإن بعض الأرقام تشير إلى ما لا يقل عن 3 مليون قتيل، يضاف لهم نحو 12 مليون لاجئ وملايين الجرحى أيضا، بينما كانت خسائر كل من فرنسا وأمريكا أقل بكثير.
لكن التاريخ يحتفظ بانتصار فيتنام على فرنسا، وخلد معركة ديان بيان فو 1954 على سبيل المثال، التي انتصرت فيها فيتنام انتصارا استراتيجيا امتدت آثاره إلى الدول التي كانت تستعمرها فرنسا في إفريقيا وخاصة الجزائر. وهكذا نتوقع أن يكون تأثير الانتصار الاستراتيجي لطوفان الأقصى.
أما حرب فيتنام (1955-1975) فكانت عبارة عن حرب أهلية بين فيتنام الشمالية والجنوبية، جاءت نتيجة لتقسيم فيتنام عام 1954 بموجب اتفاقية جينيف 1954، وهو انهزام تاكتيكي للفيتنام، حيث تدخلت الولايات المتحدة إلى جانب فيتنام الجنوبية ضد فيتنام الشمالية الشيوعية وأرسلت أمريكا قرابة 500 ألف جندي، واستخدمت كل أنواع الأسلحة المحرمة والقصف والتعذيب، وأنفقت فيها أزيد من 120 مليار دولار (أي نحو تريليون دولار بقيمة فترة طوفان الأقصى)،لكن الحرب انتهت بهزيمة أمريكا وانتصار فيتنام الشمالية عام 1973 وتوحيد فيتنام تحت راية النظام الشيوعي شهر أفريل 1975 (انتصار استراتيجي).
أما النصر الوحيد الذي حققته الولايات المتحدة فهو عن طريق أفلام هوليود على غرار "آخر طيران سايغون" و"بلاتون" و"جهنم الآن" وغيرها من الأفلام.
وبينت حرب الفيتنام ضد فرنسا وأمريكا أن القوة العسكرية ليست دائما عاملا حاسما في تحقيق النصر السياسي الاستراتيجي، فقد تمكنك القوة من تحقيق نصر تاكتيكي كما فعلت إسرائيل، لكنها لا تحقق نصرا استراتيجيا الذي عاد للفيتناميين كما عاد للمقاومة الفلسطينية بموجب طوفان الأقصى، بل هناك عوامل أخرى ليس المجال للخوض فيها أبرزها صلابة المقاومة وقوة الالتفاف الشعبي، وتصميمها على الاستقلال وتمسكها بالأرض كما فعل شعب غزة في فلسطين تماما.
وإلى يومنا هذا مازالت حرب فيتنام ملهمة للبشرية، ومثيرة للجدل في الولايات المتحدة، وهذا ما سيحدث في إسرائيل وأمريكا على خلفية طوفان الأقصى، حيث ظهرت من الآن الاختلافات حول مؤيد ومعارض. واليوم يتحدث التاريخ عن انتصار الفيتنام على فرنسا والولايات المتحدة، رغم فداحة التضحيات. وكذلك سيفعل مع الفلسطينيين.
انتصار السوفيات على النازية: 27 مليون قتيل في الحرب العالمية
هناك دولة أخرى قدمت تضحيات قد لا يكون لها مثيل في التاريخ في الدفاع عن استقلالها وسيادتها، ويتعلق الأمر بالاتحاد السوفياتي (روسيا حاليا) خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حيث تشير التقديرات إلى أن إجمالي الخسائر البشرية في الاتحاد السوفيتي يقدر بنحو 27 مليون قتيل بين عسكري ومدني. ويفتخر الروس اليوم بانتصارهم على جيش النازية الذي لم تستطع دول أوروبا الأخرى أن تصمد في وجهه.
ولا يتجرأ أحد اليوم أن يقول إن الروس انهزموا لأنهم قدموا 27 مليون قتيل بدون الحديث عن المعطوبين والنازحين وحجم الدمار. والسؤال ماذا لو لم يفعل الروس ذلك؟ ما هي النتيجة على أوروبا والعالم؟ وماذا لو لم تقاوم الجزائر ولم تقاوم فيتنام؟ كيف سيكون وضع الجزائر والفيتنام وإفريقيا وآسيا اليوم؟ نترك الجواب لدعاة الخيال السياسي.
وفي المحصلة يمكن القول إن حجم تضحيات الجزائر والاتحاد السوفياتي وفيتنام كنماذج فقط للتضحيات البشرية على مر التاريخ، يبين أن الخسائر ليست مؤشر حقيقي للربح والخسارة، لذلك تسمى تضحيات ولا تسمى خسائر.