يُروى بتواتر عن مفكّر الإسلام وفيلسوف الحضارة في القرن العشرين، مالك بن نبي، رحمه الله، قوله لزوجته في آخر حياته "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس"، فقد عاش محاصرا في عصره، ومضايقا في أفكاره، غير أنه كان واثقا تماما أنها سَتُفَعَّلُ في يوم ما، وها قد صدقت نبوءة الرجل العملاق اليوم بعودة النخب الإسلامية في مختلف المستويات إلى مُدارسة رؤاه التي سبق بها زمانه قبل 75 عاما، وجعلت قيادات دول من قيمها الفلسفية والعملية مرتكزات لنهضتها الجديدة!
لقد كان بن نبي يؤمن أنّ "المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، فالإنسان هو الهدف و نقطة البدء في التغيير والبناء "، لذلك كرس حياته للبحث في مشكلات الحضارة، وبذل جهدًا كبيرًا لفهم مقوماتها.
ودفعًا لاهتمام القرّاء بمطالعة الكتاب في ظل الحجر الصحّي هذه الأيام، وتعميما للفائدة المعرفية الراقية التي حملها فكره الإسلامي النيّر، فقد ارتأى "الحراك الإخباري"، أن يعود إلى بسط تصورات الرجل الأساسيّة، من خلال عرض لأبرز مؤلفاته العالميّة ، واليوم سيكون موعدنا مع كتاب "شروط النهضة".
يقسم بن نبي كتابه الذي بين أيدينا إلى بابين، باب الحاضر والتاريخ، وباب المستقبل. يتناول في الأول الظاهرة الإصلاحية التي بدأت في الجزائر في العام 1925 منطلقاً من أن الكلمة تساهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، ويعني بها الاهتداء بالآية القرآنية "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" (الرعد:11)، ويحدد ساعة اليقظة والحركة الشعبية بظهور حركة الإصلاح التي نهض بها العلماء الجزائريون، وعلى رأسهم بن باديس. إلا أنه يأخذ على هذه الحركة مسايرتها للسياسيين وممالأتهم، وغرقها في ما سماها أوحال السياسة.
ولديه أن الجزائر بدأت تشهد انبعاثاً فكرياً وروحياً بفضل تركيز الحركة على تشييد المدارس والحديث في الشؤون الاجتماعية والتعليم والتربية وتطهير الأخلاق والعادات ومستقبل المرأة واستخدام رؤوس الأموال، إلا أن المشاركة في مؤتمر العام 1936، جعلها "تضل طريقها، وتعود أدراجها ميممة وجهها شطر السراب السياسي، فتوارت بوارق النهضة والتقدم".
يقول بن نبي ناقداً ما اعتبره إخفاقاً: "أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست في ما نستحق من رغائب، بل في ما يسودنا من عادات، وما يراودنا من أفكار، وفي تصوراتنا الاجتماعية .. وما فيها من نقائص تعتري كل شعب نائم.. فبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة، أصبحت سوقاً للانتخابات".
ويرى بن نبي في هذا الانقلاب غياباً للفكرة، وحلولاً للأشخاص، أو الأوثان بتعبيره، محلها على رأس الحركة الجزائرية، فأصبح الشعب أكثر ميلاً لتصديق معجزات يأتي بها رجاله وزعماؤه السياسيون، كتلك التي يشاع عند العامة أن "أصحاب الحظوة" يختصون بها، وأصبح يؤمن بالعصا السحرية التي تحوله بضربة واحدة إلى شعب رشيد، مع ما به من جهل وما ينتابه من أمراض اجتماعية. ويختم هذا الباب الأول بهذه الصورة "أصبح جوهر المسألة مشكلتنا العقلية.. نسير ورؤوسنا في الأرض، وأرجلنا في الهواء؛ وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا".
ومع الانتقال إلى الباب الثاني (المستقبل) الذي هو لبّ وجوهر أطروحة الكتاب، يطرح بن نبي أكثر أفكاره التي عُرف بها أهمية؛ نظريته في معوقات النهضة التي يجب أن تكون في اعتقاده نهضة حضارة، على اعتبار أن ما يعيق النهضة في المقام الأول هو عدم إدراك طبيعة المرض الذي ينتاب العالم الإسلامي؛ انحطاط فعاليته الحضارية. كل مصلح، كما يقول، وصف الوضع الراهن تبعاً لمزاجه أو مهنته أو رأيه.
ويضرب مثلاً بالأفغاني الذي رأى أن المشكلة سياسية، وتحل بوسائل سياسية، والمثل الآخر رجل الدين محمد عبده الذي رأى المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ..إلخ. وكل هذا تشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض، بل يتحدث عن أعراضه. وكان هذا هو حال ما يقارب خمسين سنة مما سُمّي بعصر النهضة؛ يريد المريض الخلاص من آلام كثيرة؛ من الاستعمار والأمية والكساح العقلي.. وهو لا يعرف حقيقة مرضه، ولم يحاول أن يعرفه. ويشبّه بن نبي العالم الإسلامي بمن دخل صيدلية الحضارة الغربية طالباً الشفاء، فيتعاطى حبة ضد الجهل، وقرصاً ضد الاستعمار، وعقاراً للشفاء من الفقر، ولكن من دون أن يلمح شبح البرء.
المستقبل وسُبل امتلاكه هو لبّ وجوهر أطروحة الكتاب، من هنا يبدأ ببسط رؤيته، فيعرّف القارئ بالمقياس العام للحضارة، وملخصه "أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها". فيشرح تحت عنوان "من التكديس إلى البناء" كيف أن شراء منتجات الحضارة لن يخلق وضعاً حضارياً، لأن ما يظل مفقوداً هو ما لا تبيعه تلك الحضارة البائعة، أي روحها وفكرها: "فمن دون حشد الأفكار والمعاني التي لا تلمسها الأنامل، تصبح كل الأشياء التي تبيعنا إياها فارغة بلا روح ولا هدف".
بعد هذا ينتقل إلى عرض فكرة دورة الحضارة، أي قانونها، الذي يبدأ كما يرى، بالفكرة الدينية، أو أي فكرة أخلاقية أخرى، فتمر بمرحلة الروح، ثم تصل إلى مرحلة العقل وتمتد، إلى أن تصل إلى لحظة تغلب الغريزة على العقل، وهنا تبدأ مرحلة الهبوط والأفول. ويستفيد بن نبي من فكرة الدورة الحضارية ليفسر صعود الحضارة العربية في مرحلتها الإسلامية، وأي حضارة إنسانية شبيهة بها من حيث المنطلق الديني حسب تقديره، ثم انحطاطها، ومن ثم الوصول إلى العناصر الأولية التي تتفاعل وتتركب قبل أي دورة من دورات الحضارات.
ويلخصها في ثلاثة عناصر؛ الإنسان والتراب والزمن، أو الوقت بتعبيره، وهي تحتاج إلى "فكرة" دينية أو أخلاقية توجه الإنسان نحو مستقبل موعود، لتركيبها، وتحويلها إلى عناصر فاعلة. ويعتقد أن في تكييف هذه العناصر ومعالجتها، تحت عناوين توجيه الإنسان أخلاقياً وثقافياً وجمالياً واقتصادياً، وإخضاع التراب وتخضيره، واستغلال الزمن، وكل ذلك في ضوء الحاجات الاجتماعية، هو الذي يفتح الطريق نحو نهضة تعرّفت على وسائلها وأخذت بأسباب ما تأخذ به كل نهضة إنسانية.
في ما تبقى من فصول، يتناول الكتاب تحت عنوان "الاستعمار والشعوب المستعمرة"، تأثير ما يسميه "المعامل الاستعماري" كمؤثر خارجي في تشتيت طاقة المجتمعات وتحطيم قواها وإمكانياتها، ثم يتناول معاملاً آخر هو ما يطلق عليه "معامل القابلية للاستعمار" الذي أساء الكثيرون فهمه. هذا المعامل يؤثر على المجتمعات من الداخل، حين تخضع مخيلتها وفكرها للغة ومصطلحات ومفاهيم المستعمر، أي حين يتولد لديها استعداد لخدمة المستعمر، واعية بذلك أو غير واعية.
ويوضح بن نبي ما يقصده بهذا المصطلح الأخير بالقول "ما دام للمستعمر سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم".
ونشير في الختام أن هذا الكتاب صدرت طبعته الأصيلة الفرنسية في عام 1948، قبل أن يترجم إلى العربية من طرف عبد الصبور شاهين، أما طبعته الجديدة الفاخرة فقد صدرت عن دار الفكر بدمشق، وهو متوفر حصريّا بالجزائر لدى "دار الوعي"، مثلما لديها "المجموعة الكاملة لأعمال مالك بن نبي" لكل من يرغب في الاستفادة منها، حيث يمكنه التواصل معها عبر حسابها الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي