شهد الدينار الجزائري انخفاضًا كبيرًا في قيمته مقابل الدولار الأمريكي خلال العقدين الماضيين، حيث ارتفع سعر الصرف من حوالي 70 دينارًا جزائريًا لكل دولار أمريكي في أوائل الألفية إلى 133 دينارًا جزائريًا لكل دولار أمريكي في عام 2024. يعكس هذا التراجع في قيمة العملة الاعتماد الكبير للاقتصاد الجزائري على صادرات النفط والغاز، مما يجعل الاقتصاد عرضة للتقلبات الخارجية مثل تغيرات أسعار النفط. قد يجادل البعض بأن **تخفيض قيمة الدينار** قد يعزز القدرة التنافسية للصادرات الجزائرية، ولكن عند التدقيق يتضح أن هذا ليس الحل المناسب. بل قد يؤدي تخفيض قيمة العملة إلى تفاقم الوضع الاقتصادي نظرًا لضعف القاعدة الصناعية الجزائرية وندرة الصادرات غير النفطية. الحل الحقيقي يكمن في **تنويع الاقتصاد** لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
تاريخ من التدهور وعواقبه
اعتماد الجزائر الكبير على النفط والغاز جعل عملتها عرضة لتقلبات أسواق الطاقة العالمية. تسارع تدهور قيمة الدينار بعد انهيار أسعار النفط العالمية في عام 2014، حيث انخفضت احتياطيات الجزائر من العملات الأجنبية من أكثر من 190 مليار دولار إلى 44 مليار دولار بحلول عام 2021. كان انهيار أسعار النفط في عام 2014 بمثابة جرس إنذار، حيث أظهر مدى تعرض الاقتصاد لتقلبات سوق سلعة واحدة فقط.
على الرغم من محاولات الحكومة للسيطرة على انخفاض قيمة العملة، فإن استمرار ضعف أسعار النفط وزيادة التضخم جعل من الصعب الحفاظ على قيمة الدينار. واليوم، مع تداول الدينار عند 133 دينارًا جزائريًا لكل دولار أمريكي، تواجه الجزائر تحديات اقتصادية كبيرة تشمل التضخم، ارتفاع تكاليف الواردات، والنمو البطيء في القطاعات غير النفطية. بالنسبة لبعض الاقتصاديين، قد يبدو أن **تخفيض العملة** يمكن أن يعزز القدرة التنافسية للصادرات الجزائرية، لكن هذا الرأي يتجاهل نقاط الضعف الأساسية في الاقتصاد غير النفطي للجزائر.
لماذا لا يعد خفض قيمة الدينار حلاً للجزائر؟
غالبًا ما يُنظر إلى تخفيض قيمة العملة كوسيلة لجعل الصادرات أرخص وأكثر تنافسية، مما يشجع المشترين الأجانب وينشط النمو الاقتصادي. ولكن في حالة الجزائر، الوضع أكثر تعقيدًا. يمكن أن يؤدي تخفيض قيمة الدينار إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية بدلاً من حلها، وذلك لعدة أسباب:
قاعدة تصدير محدودة: يفتقر الاقتصاد الجزائري إلى التنوع، حيث تمثل صادرات النفط والغاز أكثر من 90% من الإيرادات. حتى إذا تم تخفيض قيمة الدينار، فإن هناك عددًا قليلاً من القطاعات غير النفطية التي ستستفيد من زيادة التنافسية في الأسواق العالمية. على عكس دول مثل اليابان التي تتمتع بعملة ضعيفة (الين) عند حوالي 148 ين لكل دولار أمريكي، والتي يمكنها الاستفادة من قطاعيها الصناعي والتكنولوجي، لا تمتلك الجزائر مثل هذه القدرة الصناعية، وبالتالي ستظل الفوائد من تخفيض العملة محدودة.
الاعتماد على الواردات: تعتمد الجزائر بشكل كبير على الواردات لتلبية احتياجاتها من السلع الأساسية مثل **الغذاء**، **الأدوية**، و**الآلات**. سيؤدي تخفيض قيمة الدينار إلى زيادة تكاليف هذه الواردات، مما يساهم في التضخم ويؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين الجزائريين. على المدى الطويل، سيؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف دون زيادة مقابلة في الإيرادات من الصادرات، مما يفاقم الأوضاع الاقتصادية.
الضغوط التضخمية: غالبًا ما يؤدي تخفيض قيمة العملة إلى ارتفاع معدلات التضخم، حيث تصبح السلع المستوردة أكثر تكلفة. تواجه الجزائر بالفعل ضغوطًا تضخمية بسبب اعتمادها الكبير على الواردات وقاعدة صناعية ضعيفة. مع ارتفاع معدلات التضخم الحالي، قد يؤدي تخفيض العملة إلى تفاقم المشكلة، مما يزيد من السخط الشعبي ويضع مزيدًا من الضغوط على الحكومة لدعم السلع الأساسية، وهي استراتيجية غير مستدامة على المدى البعيد.
عدم وجود بدائل اقتصادية: على عكس الدول التي تمتلك اقتصادات متنوعة، لا تمتلك الجزائر قطاعًا صناعيًا أو تكنولوجيًا قويًا يستفيد من تخفيض العملة. ففي دول مثل **كوريا الجنوبية** أو **ألمانيا**، يمكن أن يجعل تخفيض قيمة العملة الصادرات أكثر جاذبية ويدفع بالنمو الاقتصادي. في الجزائر، سيؤدي تخفيض العملة أساسًا إلى جعل **صادرات النفط** أرخص، ولكن نظرًا لأن أسعار النفط تحدد في الأسواق العالمية، فإن هذه الخطوة لن تكون ذات فائدة كبيرة، خاصة في فترات انخفاض أسعار النفط. في نفس الوقت، سترتفع تكلفة استيراد المواد اللازمة للنمو الاقتصادي المحلي مثل الآلات والمواد الخام.
قضية استبدال العملة: لماذا ليس الحل؟
بالإضافة إلى النقاش حول تخفيض قيمة العملة، قد يقترح بعض صناع القرار فكرة **إعادة تسمية العملة**، حيث تقوم الحكومة بحذف صفرين من قيمة الدينار الحالية وإنشاء **"دينار جديد"**. على سبيل المثال، قد يكون دينار جديد واحد مساوياً لـ 100 دينار قديم، على غرار ما قامت به تركيا في التسعينيات عندما أصدرت **الليرة التركية الجديدة** لتحل محل الليرة القديمة التي عانت من سنوات من التضخم الجامح. وعلى الرغم من أن إعادة تسمية العملة قد تبدو وكأنها إعادة ضبط رمزية، إلا أنها لا تعتبر حلاً للمشاكل الاقتصادية الأساسية ويمكن أن تؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار إذا لم تترافق مع إصلاحات حقيقية.
لماذا لن تحل إعادة تسمية العملة مشاكل الجزائر؟
لا تأثير على الأسس الاقتصادية: إن تغيير القيمة الاسمية للعملة عن طريق حذف الأصفار لا يعالج **القضايا الهيكلية** في الاقتصاد مثل نقص التنوع وضعف الصادرات أو الاعتماد الكبير على النفط والغاز. تبقى نقاط الضعف الأساسية قائمة، ولن تؤدي إعادة تسمية العملة إلى تحسين القدرة التنافسية للجزائر أو زيادة الإنتاجية في القطاعات غير النفطية.
تأثير نفسي مؤقت: قد تؤدي إعادة تسمية العملة إلى تعزيز الثقة مؤقتًا بإعطاء انطباع بعملة أقوى، ولكن هذا التأثير يكون عادةً قصير الأجل. إذا لم تتحسن الأسس الاقتصادية، ستستمر الضغوط التضخمية وتدهور قيمة العملة. على سبيل المثال، تجربة تركيا مع إعادة تسمية العملة تبعها استقرار مؤقت، لكن البلاد استمرت في مواجهة تقلبات العملة بسبب المشاكل الاقتصادية والسياسية.
خطر التضخم: إذا لم تدار العملية بشكل صحيح، يمكن أن تتسبب إعادة تسمية العملة في إرباك المستهلكين والشركات، مما يؤدي إلى صدمة تضخمية مع إعادة ضبط الأسعار على أساس العملة الجديدة. في دول مثل **زيمبابوي** و**الأرجنتين**، التي مرت بتجارب إعادة تسمية العملة، استمر التضخم بسبب سوء الإدارة الاقتصادية وغياب الإصلاحات الحقيقية.
تكاليف تنفيذية مرتفعة: إن إدخال عملة جديدة يتطلب تكاليف لوجستية كبيرة، مثل طباعة الأوراق النقدية الجديدة، تحديث الأنظمة المحاسبية، وإعادة حساب الأسعار في جميع أنحاء الاقتصاد. يمكن أن تكون هذه التكاليف عبئًا على الحكومة التي تواجه بالفعل تحديات مالية، وبدون استراتيجية إصلاح اقتصادي أوسع، ستكون الفوائد المالية لإعادة تسمية العملة قليلة.
آراء الباحثين الأكاديميين حول إعادة تسمية العملة
أظهرت الأبحاث أن **إعادة تسمية العملة** تكون أكثر نجاحًا عندما تكون جزءًا من **حزمة إصلاح اقتصادي شاملة**. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها سيلين روشون في عام 2005 حول تجارب إعادة تسمية العملة في أمريكا اللاتينية أن "إعادة تسمية العملة وحدها لا تحل مشاكل التضخم أو تدهور قيمة العملة. النجاح يتطلب تنسيقًا بين السياسات النقدية والمالية والإصلاحات الهيكلية." في حالة الجزائر، دون معالجة القضايا الأساسية مثل **التنويع الاقتصادي** و**التطوير الصناعي** والانضباط المالي، من المحتمل أن تفشل إعادة تسمية العملة في تحقيق تحسينات دائمة.
التنويع: الطريق الحقيقي نحو الاستقرار
بدلاً من تخفيض أو إعادة تسمية الدينار، فإن **التنويع الاقتصادي** هو المفتاح لتحقيق الاستقرار طويل الأجل في الجزائر. يجب على الحكومة التركيز على تطوير قطاعات خارج النفط والغاز، بما في ذلك:
الطاقة المتجددة: تمتلك الجزائر إمكانيات هائلة في **الطاقة الشمسية** وإنتاج **الهيدروجين الأخضر** بفضل موقعها الجغرافي وتوافر الشمس. الاستثمار في هذه القطاعات سيساهم في تقليل اعتماد الجزائر على النفط والغاز وخلق مصادر جديدة للإيرادات.
الصناعة والتصنيع: التركيز على تطوير قطاعات مثل **الفوسفات**، **الحديد**، **الزنك**، وصناعة **السيارات** يمكن
أن يساعد الجزائر على تنويع قاعدة صادراتها. الشراكات الأخيرة مع شركات دولية مثل **فيات** والشركات الصينية **جيلي** و**تشيري** تعتبر خطوات في الاتجاه الصحيح.
الزراعة والتكنولوجيا الزراعية: يمكن للجزائر تطوير قطاع زراعي قوي يقلل من اعتمادها على الواردات الغذائية. تحديث الزراعة بتبني حلول **التكنولوجيا الزراعية** يمكن أن يحول الجزائر إلى مصدر رئيسي لبعض المنتجات الزراعية.
التكنولوجيا والخدمات: الاستثمار في **التكنولوجيا** و**الاتصالات** و**الخدمات** يمكن أن يساعد الجزائر على بناء اقتصاد أكثر مرونة. دول مثل **الهند** حققت فوائد اقتصادية كبيرة من تطوير قطاع التكنولوجيا، ويمكن للجزائر أن تسلك نفس المسار.
الخلاصة: لا للتخفيض ولا لإعادة تسمية العملة
في ظل ضعف قطاع الصادرات غير النفطية في الجزائر، لا يعد كل من تخفيض قيمة الدينار أو إعادة تسمية العملة حلولًا مستدامة للمشاكل الاقتصادية التي تواجه البلاد. بدلاً من الاعتماد على حلول قصيرة الأجل قد تؤدي إلى زيادة التضخم وتقليل القوة الشرائية وعدم الاستقرار الاقتصادي، يجب على الحكومة أن تركز على **تنويع الاقتصاد**. بناء قاعدة صناعية قوية، والاستثمار في الطاقة المتجددة، وتطوير الزراعة، وتعزيز قطاع التكنولوجيا هي خطوات أساسية لضمان الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد.
مع انتقال العالم بعيدًا عن الوقود الأحفوري وتزايد عدم استقرار أسعار النفط العالمية، يجب على الجزائر اتخاذ إجراءات حاسمة لتقليل اعتمادها على الهيدروكربونات. باتباع هذا المسار، يمكن للجزائر تجنب المخاطر التي يسببها تخفيض أو إعادة تسمية العملة، وبدلاً من ذلك بناء مستقبل اقتصادي أكثر استدامة وازدهارًا لشعبها.
زهير شيخي
مهندس مختص في الاقتصاد و النفط