تعتبر الطريقة الشاذلية عند المؤرخين أصل الطرق الصوفية في الجزائر، حتّى أن شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، في كتابه "تاريخ الجزائر الثقافي" سجّل أنّ لهذه الطريقة أكثر من 20 فرعًا منشقًا عنها في الجزائر منها: الزروقية، واليوسفية، والعيساوية، والكرزازية، والشيخية، والناصرية، والطيبية، والزيانية، والحنصالية، والحبيبية، والمدنية، والدرقاوية، إضافة إلى البلقائدية.
تنسب الطريقة الشاذلية إلى مؤسسها الأوّل أبي الحسن الشاذلي واسمه علي بن عبد الله، ولد سنة 593هـ/1196م وتوفي سنة 656هـ/1258م، وتعتبر هذه الطريقة من أبرز الطرق الصوفية المنتشرة في النطاق العربي الإسلامي، وهي لا تزال منتشرة إلى الآن في بلدان كثيرة.
وأصل أبي الحسن الشاذلي من بلاد غمارة في ريف المغرب الأقصى، أمّا تسمية الشاذلي فقد أتت نسبة إلى شاذلة، وهي قرية قرب مدينة تونس، اختلف المؤرخون في تحديدها: هل هي كائنة بجبل زغوان حيث رابط الشيخ طلبا للفتح الرباني والولاية الرحمانية، أو بالمرناقية حيث مقام سيدي علي الحطاب.
وقد خرج أبو الحسن الشاذلي من بلدة غمارة في حدود عام 620هـ/1223م قاصدا الحج، ثم توجه إلى بغداد حيث كان يحضر مجالس الصوفية، ويسألهم عن القطب، إذ أنّه في عرف الصوفية لكل زمان قطبه الذي يكون مركز العلوم اللدنيّة والأسرار الإلهية، وإليه تعود أسرار الحياة الصوفية في الكون، وهكذا استمرّ الشاذلي إلى أن أشار عليه أبو الفتح الواسطي قائلا: "إنّ القطب في بلادك فارجع هناك تجده" فقفل الشاذلي راجعا إلى غمارة سائلا عن القطب فقيل له إنّه برابطة رأس الجبل فقصده فكان أبا محمد عبد السلام بن مشيش (ت 622هـ/1225م) الذي اشتهر بكراماته كما تروي مناقبه، وله نصّ صلاة على النبي محمد (ص) عرف باسمه "الصلاة المشيشية".
فاغتسل الشاذلي في العين الكائنة بأسفل الجبل وصعد إليه، فقال له: "يا علي، الله الله، والناس نزه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التماثل مع قلوبهم، وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض وقد تمت ولاية الله عليك، ولا تذكرهم إلا بواجب حق عليك، وقل اللهم أغنني بخيرك عن خيرهم، وقني شرّهم وتولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير"، وأشار عليه بالذهاب إلى تونس والاستقرار بشاذلة، فقصد تونس حيث التقى في مصلى العيدين (بين باب الجديد ونهج المرّ حاليا) بسيدي علي الحطاب 671هـ/1272م، الذي كان يسكن شاذلة، وهو الذي اصطحبه إليها، وهناك تعرّف على أبي محمد عبد اللّه الحبيبي (ت693هـ/1294م) والشيخ أبي حفص الجسّوسي وكان من علماء الظاهر (الفقه والكلام والتفسير) والباطن (التصوّف والتأويل والحكمة) وسيصير هؤلاء الثلاثة في ما بعد من أبرز أصحاب أبي الحسن الشاذلي الأربعين.
وهكذا أقام أبو الحسن الشاذلي في شاذلة وكان في الآن ذاته يتردّد على مدينة تونس وضواحيها ويلتقي بمشائخها، ويكثر من الصلاة والتعبّد في جامع الزيتونة، كما كان يحضر باستمرار حلقات الذكر ومجالس الصوفية. يقول في ذلك "ولما دخلت تونس قصدت إلى من فيها من المشايخ، ولم أجد فيها من عرفني بما كنت في حيرة منه، إلاّ الشيخ الصالح أبي سعيد الباجي (ت628هـ/1230 - 1231م) فإنّه أخبرني بحالي قبل أن أبديه، وتكلم على سرّي فعلمت أنّه ولي الله فلازمته وانتفعت به كثيرا". ولقد تأثر الشاذلي كثيرا بأبي سعيد الباجي الذي كان تلميذ عبد العزيز المهدوي (ت621هـ/1224م) نزيل المرسى الذي نوّه به ابن عربي (ت638هـ/1240م) في كتابه الذائع الصيت الفتوحات المكية. حيث ذكر في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ما منّ به الله على المهدوي من أسرار الولاية وحكمة العرفان، وقد كان المهدوي مريدا لأبي مدين شعيب الأنصاري (ت597هـ/1198م) الذي أدركه كذلك أبو سعيد الباجي إضافة إلى جمع آخر من رموز الصوفية وأقطابها ببلاد إفريقية آنذاك، من أمثال الشيخ أبي يوسف يعقوب الدهماني وأبي علي النفطي، والشيخ عبد الرحمان الدباغ مؤلف معالم الايمان. وقد بشّر أبو سعيد الباجي أبا الحسن الشاذلي مثلما جاء في مناقب أولياء تونس "أنّ أحزابه وأوراده وأدعيته سوف تبقى تتلى في المغارة إلى يوم يبعثون".
المغارة الشاذلية
كانت مجالس الذكر والرياضة الروحية لأبي سعيد الباجي تنعقد بضاحية جبل المنار (أو منارة قرطاجنة) التي سمّيت فيما بعد باسمه، كما كانت تعقد مجالسه بجبل التوبة الذي صار يسمّى في ما بعد بجبل الزلاّج نسبة إلى محمد الزلاج (ت661هـ/1262 - 1263م) الذي كان من أصحاب الشاذلي الأربعين، وكان أبو سعيد الباجي دائم الانقطاع إلى التأمل الروحي والبحث في أسرار الوجود. ولم يعبأ بالعطايا والهدايا التي أغدق بها عليه أبو العلاء الموحدي الموالي للتصوّف آنذاك.
ولمّا توفي أبو سعيد الباجي سنة 628هـ/1230 - 1231م آلت رئاسة حلقته الصوفية إلى أبي الحسن الشاذلي الذي آثر التفرّغ إلى تربية المريدين، وصقل قدراتهم الروحية على الصفاء والصعود في مقامات العرفان ومراتب الكشف، فلم يرض ذلك فضول الفقهاء وعلماء الظاهر الذين سارعوا في الدسّ عليه واتهامه بالمغالاة. وكان في مقدمة هؤلاء أبو القاسم محمد بن البرّاء الذي تصدّى للشاذلي منكرا عليه سيره الصوفي، حتى أوقعه في ورطة المحاكمة بمجلس الأمير أبي زكرياء الحفصي. ولم يكن الحكم في صالح أبي الحسن الشاذلي، غير أنّ أخا أبي زكرياء الحفصي وهو أبو عبد الله محمد اللحياني حذّر من مغبّة مظلمة الشاذلي، فخلصه من الحكم الذي أصدر في شأنه والقاضي بسجنه. وتورد المصادر أنّ حريقا شبّ في قصر أبي زكرياء الحفصي وماتت جارية من أجمل جواريه على إثر محاكمة الشاذلي، دون فعل فاعل.
وقد أقدم الشاذلي إثر ذلك على الارتحال إلى المشرق العربي مصطحبا عياله وعددا من أصحابه، فركب البحر ذهابا إلى مصر، حيث استقبل بحفاوة، وحظي بعناية خاصة. وبدأت تتبلور هناك مفاهيمه ونظرياته في الحياة الروحية والآداب الصوفية التي من أبرزها أحزابه، وهي نصوص في توحيد الله وتسبيحه والصلاة على النبي مع التضرّع بالآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى طلبا للطف والمغفرة. وبمرور الوقت صارت هذه الأحزاب تقرأ بطريقة ذات لحن ونمط أداء محددين وتبرّز عدّة شيوخ في قراءتها يسمّون بـ"الحزّابة" ومن هذه الأحزاب: الحزب الكبير، حزب الإخفاء، الحزب الخفي ولكل من هذه الأحزاب وظيفة تلازم أداءه. ويجدر أن نشير إلى الأثر البارز لكتابي النفري الموافقات والمخاطبات والترمذي ختم الأولياء في أبي الحسن الشاذلي وفي تكوّن فكره الصوفي.
العودة إلى تونس
رغم معارضة الفقهاء له في مصر وكان على رأسهم العز ابن عبد السلام، فقد انتشرت طريقته هناك واشتدّ عودها. ثمّ رجع الشاذلي إلى تونس سنة 647هـ/1249م وأخذ معه أبا العباس المرسي القادم من بلاد مرسية بالأندلس، وهو الذي سيتولى مشيخة الطريقة الشاذلية بعد وفاة الشاذلي، وكان قد أوصى له بذلك، واستقرّ الشاذلي بمصر (الاسكندرية) نهائيا إلى أن توفي سنة 656هـ/1258م وهو في طريقه إلى الحج بصحراء عيذاب، ودفن بقرية حميثراء بصعيد مصر، وكان في آخر حياته قد فقد بصره.
وتؤثر عن الشاذلي أقوال حكيمة وأدبيات في التصوّف كثيرة. فمثلا يقول في كيفية التدرّج في السلوك إلى الله "أوّل منزل يطأه المحب للترقي منه إلى العلا هو النفس، فإذا اشتغل بسياستها ورياضتها إلى أن انتهى إلى معرفتها وتحققها أشرقت عليه أنوار المنزل الثاني وهو القلب، فإذا اشتغل بسياسته حتى عرفه لم يبق عليه منه شيء أشرقت عليه أنوار المنزل الثالث وهو الروح... فإذا اشتغل بسياسته وتمت له المعرفة هبّت عليه أنوار اليقين شيئا فشيئا إلى تمام نهايته وهذه طريق العامة. وأمّا طريق الخاصة فهي طريق مسلوك تضمحلّ العقول في أقلّ القليل من شرحها".
وعرف أبو الحسن الشاذلي بإيثاره لمحبة الناس، والسعي إلى قضاء حوائجهم وإغاثة المحتاجين منهم وإطعام الجوعى بمدينة تونس في أكثر من مرة.وكانت له نظرة فلسفية متفرّدة في فهم أمر هبوط آدم إلى الأرض ويظهر ذلك في قوله: "ما أنزل الله آدم من الجنّة إلى الأرض لينقصه ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله، فنزوله نزول كرامة لا نزول مهانة". هكذا إذن تصير حياة بني آدم في الدنيا سببا في تحصيل الكمال ومرقاة للسموّ إلى العالم العلوي، وهي نظرة أغلب الصوفية الذين يلتقون في ذلك مع حكماء الإشراق.
وقد تطوّرت الآراء والأفكار الشاذلية مع أبي العباس المرسي ثم ابن عطاء الله السكندري (ت709هـ/1309م) صاحب كتاب لطائف المنن في مناقب أبي العبّاس المرسي وشيخه أبي الحسن وكتاب الحكم العطائية. هذا بالنسبة إلى المشرق، أمّا بالنسبة إلى المغرب فقد تطوّرت أفكاره مع ابن عجيبة (ت1224هـ/1809م) الذي وضع مؤلفا بعنوان: إيقاظ الهمم في شرح الحكم، وكذلك تبنت الطريقة العيساوية والطريقة العروسية ثم الطريقة العلاوية بمستغانم الكثير من أفكار الطريقة الشاذلية ومبادئها التي ظلت إلى اليوم منتشرة في أغلب أرجاء العالم العربي الإسلامي.
ق/و