إذا وجدت شخصا ذو مستوى عالي، أستاذا أو دكتورا، أو إطارا مرموقا يستعين بشخص أقل منه في المستوى، أو أصغر منه سنا، ليتمكن من الولولوج إلى بوابة إلكترونية أو منصة رقمية لاستخراج وثيقة ما، أو لملأ استمارة أو إيداع ملف عن بعد... فلا تستغرب ! إنه الجيل القديم، الذي يُطلِق عليه البعض إسم "الجيل الذهبي"، فكيف ياترى يتأقلم هذا الجيل مع الرقمنة ؟ هل اكتسب تقنيات الأنترنت وتحكم فيها؟ مامدى استعماله للمنصات الرقمية ؟ هل صحيح ما يقال عن تشبث هذه الفئة بكل ماهو ورقي ومطبوع ؟ عندما نتحدث عن الجيل القديم فنحن لا نتحدث عن كبار السن والمتقاعدين وحسب، بل نتحدث عن مواليد الخمسينات والستينات وشريحة معتبرة من مواليد السبعينات والثمانينات والتسعينات، ممن ولدوا ونشأوا في زمن غير زمن الانترنت، حيث لم تكن مواقع التواصل الإجتماعي، والهواتف الذكية والمنصات الرقمية موجودة، ويعيشون اليوم في زمن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الإصطناعي... كقدماء الأساتذة وقدماء الإطارات في المؤسسات الإقتصادية والإدارات، وحتى بعض رجال الأعمال والمتعاملين الإقتصاديين الذين قضوا حياتهم يعملون ويتعاملون بالوثائق والمستندات... هؤلاء يمثلون الجيل المخضرم الذي عاش نصف حياته في زمن الورق، ونصفها الآخر في زمن الرقمنة... اليوم لاىيستغنون عن الوسائل والمعاملات الرقمية في حياتهم، وذلك في ظل اتساع مجال الرقمنة في الجزائر ودخول عدة خدمات رقمية حيز الخدمة، كاستخراج الوثائق الرسمية على غرار ما تقدمه وزارتي العدل والداخلية، أو المعاملات المالية كالدفع والسحب والتحويل المالي والتجارة الالكترونية.
قدماء الإطارات والأساتذة الأكثر فعالية وقابلية للتحوّل الرقمي
قد يعتقد البعض أن جيل الألفية هو الأكثر اندماجا في الرقمنة، بحكم أنه ولد ونشأ في زمن التكنولوجيا والحواسيب والهواتف الذكية، لكن الحقيقة غير ذلك، حسب خبير الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات "يزيد أقدال"، الذي يجزم في تصريحات لـ "الحراك الإخباري" أن "الجيل القديم من الأساتذة والإطارات في مختلف الإدارات والمؤسسات يُعتبرون الفئة الأكثر قابلية للتحول نحو الرقمنة، والتعلم والتطور بحكم وظائفهم ومناصبهم، وظروف العمل التي تفرض عليها التأقلم مع كل ما هو جديد، حتى وإن لم يستجيبوا لها بصفة آنية، فإنهم سيندمجون فيها حتميا، عاجلا أو آجلا، وأكبر مثال على ذلك اندماج قدماء الأساتذة الذين اضطروا مع مرور الوقت إلى تعلم كيفية إدخال نقاط التلاميذ في المنصات الرقمية".
كذلك الأمر بالنسبة لأولياء التلاميذ، وعددهم يقدر بالملايين، خاصة إذا علمنا أن أكثر من 11 مليون طفل متمدرس في مختلف الأطوار التعليمية لقطاع التربية، وجد أوليائهم أنفسهم مجبرين على تعلم دخول المنصة الرقمية لوزارة التربية، لاستيقاء المعلومات اللازمة، والحصول على قرارات التمدرس عبر التراب الوطني، والتي أصبحت تمنح حصريا من الأرضية الرقمية للوزارة فقط. في قطاع التعليم العالي وبعد أن كانت المنصات الرقمية موجهة للطلبة فقط، أطلقت وزارة التعليم العالي منصات رقمية مخصصة للأساتذة، ووجد قدماء الأساتذة أنفسهم يَلِجُون عالم الرقمنة من بابه الواسع، حتى يتمكنوا من التعامل مع طلبتهم، عبر المنصات الرقمية، وكذلك حجز الكتب والمراجع المختلفة عبر الأرضيات المخصصة لهذا الغرض في المكتبات الجامعية والوطنية. وفي هذا الإطار، كشف عبد الجبار داودي، مستشار مختص في الرقمنة والمنصات الإلكترونية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في اتصال مع "الحراك الإخباري" أن "الوزارة أطلقت منصات رقمية موجهة خصيصا للأساتذة، للتواصل معهم، وعلى سبيل المثال، أصبح بإمكان الأستاذ تقديم طلب للإستفادة من تربصات خارج الوطن عبر المنصة، بعد أن كان مجبرا على تحرير طلب مكتوب وتقديمه إلى القسم والمجالس العلمية للموافقة عليه، وكذا تسليم وثائق ورقية لإثبات توجهه إلى بلد معين لإجراء تربص"، مضيفا "أصبح الأستاذ اليوم يستطيع بكبسة زر واحدة أن يطلب هذا التربص بالخارج، كما يمكنه أيضا تتبع مراحل دراسة الملف، وطلب تجديد المنحة أثناء تواجده في الخارج دون العودة إلى أرض الوطن ودون التنقل إلى الوزارة مثلما كان جاري العمل به من قبل."
يتضح لنا من خلال أراء الخبراء بأن الجيل القديم من الأساتذة الجامعيين وقدماء الإطارات في الإدارات والمؤسسات، اندمجوا في الرقمنة بكل سلاسة وسهولة رغم أنهم من جيل الورق، وذلك بفضل تواجدهم في محيط علمي ومهني وبحكم ممارستهم اليومية لوظيفتهم التي تفرض عليهم تحيين مهاراتهم ومعلوماتهم والتأقلم مع كل مع هو جديد.
الأبناء وأعوان الإدارة مدعوين إلى مرافقة كبار السن لولوج المنصات الرقمية
إذا كان الأمر هكذا بالنسبة لقدماء الأساتذة والإطارات الذين لا يزالون قيد الخدمة، فإن الوضع مختلف بالنسبة للمتقاعدين، وكبار السن، خاصة أولئك الذين لا يتحكمون في تكنولوجيا الانترنت والحواسيب والهواتف الذكية. وعن هؤلاء، يؤكد خبير الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات "يزيد أقدال" أن مشكل عجز كبار السن والأشخاص الذين لا يتحكمون في تكنولوجيات الانترنت عن استخدام المنصات والبوابات الرقمية مطروح في كل البلدان، بما في ذلك المتقدمة، وليس في الجزائر فقط، ولذلك مهما بلغ مستوى الرقمنة لدى الدول المتقدمة نجدها تحرص على ترك هامش للفئات الذين لا يحسنون التعامل عبر الوسائل والمنصات الرقمية، حتى لا يتم تهميشهم وإقصائهم، ورغم ذلك ـ يضيف المتحدث ـ يبقى إندماجهم ليس بالمستحيل إذا حظي هؤلاء بمرافقة الأجيال الجديدة لهم، لتمكينهم من التسجيل وقضاء حوائجهم على المنصات والدفع آليا، ومن ثم تعليمهم تدريجيا" ولفت "يزيد أقدال" إلى أنه كلما كانت الخدمات الرقمية منتشرة أكثر وكلما تم الترويج لها، وكلما كانت المنصات سهلة الإستخدام كلما زاد انخراط كبار السن فيها، غير أنه من الصعب أن تكون خدمات رقمية حصرية لأن هذا يمكن أن يحرم هذه الفئات من الخدمات الرقمية، لذلك لابد من الإبقاء دائما على هامش لكبار السن".
اندماج كبار السن، في عالم التكنولوجيا والرقمنة لا يزال محتشما ومحدودا على الفئات التي تملك مستوى علمي ومعيشي يمكنها من اكتساب التكنولوجيا واستخدامها، فمثلا من الصعب إقناع أكثر من 3 ملايين متقاعد أنهم يستطيعون سحب معاشاتهم عن طريق البطاقة البنكية أو البطاقة الذهبية دون الحاجة إلى التنقل لمراكز البريد، كما يصعب إقناعهم باستخدام البطاقة لدفع الفواتير أو تسديد ثمن مقتنياتهم في المحلات، ولكن الغالبية منهم يملكون بطاقة الشفاء التي تعتبر ضرورية بالنسبة بأصحاب الأمراض المزمنة والمتقاعدين، لاقتناء الأدوية القابلة للتعويض تلقائيا عند شرائها دون الحاجة إلى التنقل لوكالات الضمان الإجتماعي.
من بين مجالات الرقمنة التي اندمج فيها كبار السن اندماجا كليا، رقمنة الحج، عبر بوابة إلكترونية أطلقها الديوان الوطني للحج والعمرة لتمكين الحجاج من التسجيل عن بعد في القرعة السنوية للحج، ومنصة رقمية لتمكينهم من اختيار التواريخ الأنسب لرحلاتهم، والإطلاع على البيانات المتعلقة بالإسكان، حيث صار بوسع الحاج أن يستخرج من بيته، تذكرة السفر، ويحجز غرفة سكنه وإقامته في البقاع المقدسة، والحصول على تأشيرة سفره، هذا بالإضافة إلى إطلاق بوابة الحج والعمرة "موبايل" التي يستطيع الحاج والمعتمر من خلالها الاطلاع على مختلف التوجهات والإرشادات التنظيمية والفقهية السلوكية الخاصة بمناسك الحج، وكما نعلم فإن أغلبية الحجاج الجزائريين هم من فئة كبار السن، وسواء كان الحاج يفعل ذلك بمفرده أو بمساعدة شخص آخر فإنه يكون قد استفاد من التسهيلات التي تتيحها الرقمنة، وهو الحال بالنسبة للحاج علي من الأخضرية بولاية البويرة الذي أكد لنا أنه اعتمد على أبناءه للتسجيل في بوابة الحج، وفي منصة "نسك" التابعة للديوان الوطني للحج والعمرة، وتمكن من القيام بكل الإجراءات الضرورية.
وهكذا، بشكل أو بآخر، يستفيد كبار السن من الرقمنة بشكل غير مباشر، وذلك بمساعدة أعوان الإدارة، أو أبنائهم أو أحفادهم، بإمكانهم التسجيل في الحج عبر بوابة إلكترونية، تحويل الأموال عن بعد، التواصل مع أبنائهم وأحفادهم عن بعد، حجز التذاكر عن بعد، الحصول على التأشيرة ...إلى غير ذلك، رغم أن فئة قليلة منهم يستطيعون ذلك بمفردهم. ويؤكد خبير الرقمنة يزيد أقدال على ضرورة مرافقة الأبناء والأحفاد وكذا أعوان الإدارة لكبار السن عندما يتعلق الأمر بالتسجيل على البوابات الإلكترونية، لتمكينهم من قضاء حوائجهم والإستفادة من الخدمات المقدمة عليها. ومن بين الوسائل الرقمية التي لقيت رواجا وسط كبار السن في الجزائر، الساعات الذكية التي عادة ما يقتنيها الأبناء لآبائهم، خاصة المصابين بأمراض القلب والضغط الدموي، من أجل تسجيل البيانات الصحية، قياس ضربات القلب، والضغط، وتدفق الدم، حيث أنها تصدر إنذارا فور رصدها ضربات غير منتظمة، غير أن هذا النوع من الساعات ليست متاحة للجميع، بحكم أنها باهضة الثمن.
في النهاية، سقط الإعتقاد السائد بأن الأنترنت وسيلة مخصصة للشباب فقط، وبأن الجيل القديم وكبار السن غير مؤهلين لولوج العالم الرقمي، فقد اندمجوا فيه أكثر مما كان متوقعا، مما جعلهم أكثر فاعلية وإنتاجية ووفر لهم حياة رغدة ومريحة.
روبورتاج: جميلة بلقاسم